تركني والدي وأنا في الخامسة من عمري حين طلق أمي ، هذه الأخيرة كانت أما وأبا ، وكل شيء في حياتنا ، لم تشعرني أبدا بفقدان والدي أو غيابه ، حتى أني لم أسألها عنه يوما فقد كنت أظنه قد مات .
استطاعت أمي أن تغطي كل حاجيات البيت، ونفقاتي الشخصية؛ من متطلبات الدراسة ومن ملابس ولم أشعر يوما بالنقص... حتى أن الكثيرين كانوا يحسدونني على هذه الأم العظيمة وكيف أنها استطاعت أن تتحمل مسؤولية المنزل من جهة ثم العمل خارجه ، لتوفير الظروف المادية .
وأذكر كثيرا من معاناتها ... وكنت أتعجل التقدم في العمر كي أحمل المسؤولية عنها ، وكثيرا ما أردت ترك الدراسة لكي أبحث عن عمل وأجعلها ترتاح كباقي الأمهات معززة مكرمة في بيتها...
وفي كل مرة كنت أفاتحها في الموضوع كانت تغضب مني وتقول : إذا أردت ان تساعدني وتفرح قلبي ، اجتهد في دراستك ، وكن متفوقا ، فإذا فعلت، أحسست أن عنائي لم يذهب سدى...
كنت كذلك أجتهد وأتفوق وكان دافعي الأساسي أن أرضي أمي وأجعلها تفخر بي.
أما والدي فكثيرا ما كان يخطر ببالي أن أسالها عنه لكن ينحبس لساني وتشل حركاتي ولا أستطيع النطق بكلمة ... وهكذا استمرت حياتنا غير آبهين لغيابه فهو لم يكن في حياتنا حتى يغيب عنها.
وجاءت مرحلة الحسم في حياتي ، جاء اليوم الذي رأيت الفرحة العظيمة على وجه أمي ، أحسستها في قلبها ،حين حملت إليها بشرى حصولي على شهادة البكالوريا ،فرحتي لم تكن بالشهادة نفسها أكثر من فرحتي أني جعلت أمي تفخر بي .. ولا أنس هذا اليوم فقد رأيت فرحا ممزوجا بدموع، وعيدا فيه بعض الألم ، ولا أذكر أني يومها وددت لو كان والدي حيا معنا ليشاركنا هذه الفرحة.
جلسنا نحتفل بهذا النجاح ، ونتبادل الحوار حول مشاريعي المستقبلية ، فسألتني أمي ماذا تنوي أن تفعل بعد البكالوريا ، نظرت إليها وقلت : أريد أن أسافر إلى الخارج لأتابع دراستي .. فصرخت أمي صرخة : لا الخارج لا .. ثم قامت بسرعة ودخلت إلى غرفتها مغلقة الباب وراءها ، وتوجهت خلفها فإذا بها تبكي بكاء لم أرها تبكي مثله قط ، وعندما سألتها عن السبب ، فقالت أرجوك يا ولدي لاتفكر في الخارج ، أتريد أن أفقدك كما فقدت والدك؟
ألححت عليها كي تحكي قصة أبي فقالت أنه عندما كنت في الخامسة من عمرك قرر الذهاب إلى الخارج للعمل ليعود بالمال ليحقق لنا ما نرغب به ، لكنه وبعد بضعة أشهر انقطعت أخباره ، فلم يعد يتصل ،وعلمت من أحد الأقارب أنه تزوج من امرأة أجنبية واتصلت به وتشاجرنا ، وبعد ذلك وصلتني ورقة الطلاق ومنذ ذلك اليوم لم أعد أعرف عنه شيئا .
تركتها ثم توجهت إلى غرفتي ، أفكر ، ثم جاءتني وقالت أنها لاتمانع أن اتصل به ، وأن أستعين به ، لكن قالتها وعيناها تتلألأ بالدموع ، وأعطتني رقم هاتفه ، وأخبرتني أنه قد اتصل مرة ليسأل عني لكنها ردت عليه أن ينسى أن له ابنا .
لم أنم تلك الليلة وبت أفكر في حيرتي ، وفي الصباح كنت اتخذت قرارا ، وأخبرت أمي أنها هي والدي وكل دنياي ولن أفارقها ، وأني سأحاول البحث عن عمل هنا أساعد نفسي وأساعدها .
مرت أيام فجاءتني أمي لتخبرني أنها علمت ان والدي هنا في البلاد ، وأعطتني عنوانه ، وأخبرتني أنها لاتمانع أن أذهب لزيارته.
بالفعل ذهبت لزيارته، ولم أكن ارمي من هذه الزيارة سوى رؤيته ومعرفة أسباب تخليه عنا.
وعندما التقيت به فرح كثيرا بوجودي وسأل عني وعن والدتي وطلب مني مساعدتي ، ولم أشعر إلا وأنا أقول لما لم تساعد ني عندما كنت محتاجا لمساعدتك وعندما سألته لماذا تركنا قال أنها ظروف خاصة...
ثم طلب مني أن أذهب للعيش معه، وحقيقة استهوتني الحياة التي كان فيها.
لكن تذكرت السيدة العظيمة التي وهبتني حياتها ، ولولاها ما كنت على ما أنا عليه فهل أوثر من تركني على من آثرني على نفسه، كلا إنها خيانة فأخبرت أمي بما دار بيننا ، فأحسست بفرحتها ، ومن ذلك الحين لم أسمع خبرا عن أبي ، فقد عاد إلى دياره، ونسينا للمرة الثانية، آنذاك أيقنت أنني أحسنت الاختيار.